القائمة الرئيسية

الصفحات

المكانة الحضارية لبلاد الشام

 


إن مكانة بلاد الشام الحضارية أكبر أن تختزل بكلمات أو صفحات فهي تحتل مكانة فريدة في تاريخ البشرية. فيها نشأت الديانات التوحيدية اليهودية والمسيحية كما كان دورها أساسياً في نشوء وانتشار الإسلام. إليها تتجه أنظار المسيحيين واليهود والمسلمين من كل أنحاء العالم، وفيها تم اختراع الأبجدية، وهي على الأغلب مكان تدجين القمح ومكان اكتشاف النحاس واختراع الخزف ومكان نشوء الزراعة والتحول من حياة الصيد إلى حياة الزراعة و الاستقرار « و ربما كانت قبل ذلك المكان الذي ترعرع فيه سلف من أسلافنا المباشرين الإنسان الحديث» (فيليب حتي).
لم تنقطع نار الحضارة عن هذا الجزء من العالم، وإن كانت تخبو أحياناً، فقد ظلت مساهمتها أساسية في التاريخ العام للبشرية.

كما كانت حاضرة في كل أحداث التاريخ الكبرى بسبب موقعها الجغرافي فهي تقع في قلب العالم القديم: آسيا وإفريقيا وأوروبا، لذلك أُطلق عليها اسم جسر القارات لأنها تشكل صلة وصل بين البشر، و بين الحضارات. وهي مركز للتبادل السلعي والحضاري. هي قلب العالم فقد التقى على أرضها البشر من كل دين و جنس ولون، وعبر دروبها عبرت القوافل بين شمال العالم وجنوبه ومن شرقه إلى غربه، و في أسواقها كان يتم تبادل السلع وتتلاقح الأفكار فيكتسب البشر خبرات حضارية جديدة، و قد انعكس كل ذلك على تركيبتها السكانية المتنوعة فهي خليط من كل الأعراق والديانات، شجرة باسقة ذات جذع عربي إسلامي راسخ في الأرض تمتد أغصانها في كل الاتجاهات.

بلاد الشام عبر التاريخ أشبه بوعاء تفاعل حضاري كبير إذ تلاقحت على أرضها الحضارات والأديان، والتقى فيها البشر من كل أصقاع الأرض فاختزنت أرضها كل المؤثرات والحضارات. وبعد أن تكتمل عناصر هذا التفاعل وتختمر كانت تنهض واقفة لتعطي البشرية ديناً أو حضارة جديدة.
أما من الناحية السياسية والعسكرية فقد شكلت بيضة القبان في العلاقات الدولية، فهي مؤشر لصعود القوى أو انحسارها. من يضع يده عليها يضمن لنفسه اليد العليا سياسياً وعسكرياً و من يخسرها يخرج من التاريخ بغير رجعة كما حدث مع البيزنطيين وغيرهم، أو يحتاج إلى وقت طويل ليعود إلى ركابه.
إضافة إلى أهميتها الجغرافية والحضارية والسياسية و العسكرية يجب أن لا ننسى أهميتها الدينية لأنها تضم القدس المكان المقدس لدى أصحاب الديانات التوحيدية الثلاث بين جنباتها، و كذلك انطاكية ذات الأهمية الدينية المسيحية. كما أنها بوابة مكة « شام شريف».

للشام أهمية عسكرية وسياسية واقتصادية وحضارية ودينية و ندر أن نجد مكاناً في العالم اجتمعت فيه كل هذه الميزات.
على الدوام تنازعت ثلاث قوى السيطرة على بلاد الشام، من الشرق العراق وقد تحل فارس محله أو ما خلفهما حسب صعود الحضارات و هبوطها في آسيا وحسب ميزان القوة بين العراق و بلاد فارس، و من الشمال الأناضول بغض النظر عن الحضارات و الأديان السائدة فيه، و من الغرب مصر. لكن في فترتين تاريخيتين تمركزت القوة في بلاد الشام وتحولت من كونها ميداناً للصراع إلى قائدة للأمة.

العهد الأموي

الفترة الأولى في العهد الأموي الذي استمر لتسعين عاماً حيث تُوجت بلاد الشام بأعز أمجادها فصارت دمشق عاصمة الدنيا المعروفة في ذلك الوقت، من حدود الصين إلى قلب أوروبا. صار العالم ملحقاً «ببستان هشام». أما الفترة الثانية فكانت أيام حروب الفرنجة إذ استجمعت بلاد الشام قواها واستطاعت ابتداء من الموصل، فحلب، فدمشق أن تُنشأ دولة قوية تحت قيادة آل زنكي فتوحد الجهد العسكري ضد الغزاة الفرنجة، ثم أكمل خليفتهم صلاح الدين الأيوبي المهمة فاستولى على مصر ليضع الممالك الصليبية على الساحل السوري بين قطبي رحى مسترداً القدس وفاتحاً الطريق لتصفية كل الممالك الصليبية على الساحل السوري على يد المماليك فيما بعد.

و القاعدة الأساسية التي لا زال سارية حتى اليوم هي أن بلاد الشام لا تستقر إلا إذا توحدت قوتان على الأقل حولها، أو إذا نشأت دولة قوية في أحد المراكز المحيطة بها فتستولي على مركز من المراكز الأخرى او على المركزين. فلم يُطرد الصليبيون إلا بعد توحد العراق ومصر تحت راية المماليك، كما استقرت بلاد الشام لأربعة قرون تحت حكم العثمانيين (السلام العثماني) لأنهم سيطروا على الفضاء المحيط بها.
عند بداية الألفية الثانية للميلاد دخلت ساحة الصراع على بلاد الشام قوة جديدة هي أوروبا، فشنت حرباً أسمتها صليبية هدفها السيطرة على بلاد الشام لتحتكر الطريق البري إلى آسيا فاحتلت القدس لتمسك بخناق القوى الإسلامية عبر ضربها في قلبها: بلاد الشام. ونشير هنا إلى أن سكان بلاد الشام لم يغلقوا طرق آسيا في وجه أحد بل إن جوهر حياتهم يعتمد على استمرار هذه الطرق مفتوحة للجميع لكن الغربيين يريدون احتكار طرق آسيا ومنع الآخرين من ارتيادها وهذا عين ما فعلوه فيما بعد في حوض المحيط الهندي وفي أسواق آسيا التي كانت هي أيضاً مفتوحة للجميع فاحتكروها لأنفسهم مانعين الإبحار والتسوق إلا بإذن منهم!

صلة الوصل

بعد فشل حروب الفرنجة استمرت محاولات السيطرة الغربية على بلاد الشام حتى نجحت في ذلك بعد الحرب العالمية الأولى، ثم ورثت أمريكا هذا الدور عن أوروبا ومازالت مسيطرة حتى اليوم وإن كانت هذه السيطرة آخذة في الانحسار كما حدث مع كل موجات الغزو السابقة.

لا بد من التوقف مع ملاحظة جوهرية و هي أن ظهور الإسلام في الجزيرة العربية التي تعتبر مع بلاد الشام منطقة واحدة – من الجغرافيين العرب القدماء من يعتبر مصطلح الجزيرة العربية متضمناً بلاد الشام بسبب تواصل الجغرافية والسكان – إن ظهور الإسلام و انتشاره شرق و غرب و شمال بلاد الشام جعل الصراع بين الأناضول و مصر والعراق (أو فارس في حال تراجع دور العراق) على بلاد الشام يدور داخل البيت العربي الإسلامي و داخل الحضارة العربية – الإسلامية فالمنطقة الممتدة من وسط آسيا إلى الأطلسي صارت منطقة واحدة حضارياً وسياسياً واقتصادياً، و بذلك اكتسبت بلاد الشام وظيفة جديدة إذ صارت قلب الحضارة العربية – الإسلامية، فهي صلة الوصل بين الكتل الإسلامية الكبرى الآسيوية، والإفريقية، والشمالية في الأناضول وملحقاتها في البلقان والقوقاز. وفي الوقت نفسه أدى دخول أوربا إلى الصراع على بلاد الشام إلى تحوله إلى صراع عربي إسلامي – أوروبي على بلاد الشام. فصار للصراع على بلاد الشام بعدان داخلي وخارجي. داخلي بين أطراف الحضارة الإسلامية لتحديد حجم القوة والنفوذ. وخارجي بين القوى الإسلامية ككل و بين أوروبا الصاعدة بعد الألف الثانية للميلاد.

تعليقات