لم يكن يدري ذاك الرجل الذي يبيع هذا العبد بأبخس المال أنه “سيكون اسماً رفيعاً ذو شأن عظيم”، ففي دمشق ينادي من يشتريه مني ب 800 درهم فقط! يُباع لينتقل لسيده ليقتحم الحياة بقوةٍ واندفاع ويصبح محبوباً ويأخذ الريادة في كل مجال ويحقق بطولات إسلامية مهمة رافعاً راية الحق للإسلام ضد المغول والصليبين.
مولد الظاهر بيبرس ونشأته
ولد السلطان المملوكي “ركن الدين بيبرس البندقداري” عام 1221 ميلادية على أرجح القول في صحراء القبجاق التابعة لقيرغزستان بوسط آسيا وتعود أصوله إلى تركيا، وبيبرس كلمة تركية تعني أمير فهد، وصل إلى دمشق وهو في عمر صغير في الرابعة عشر من عمره وبيع بالشام بسوق العبيد واشتراه الأمير “علاء الدين أيدكين الصالحي البندقداري”، وعلى ذلك أخذ الظاهر بيبرس نسبه وبعدها رده بسبب بقعة بيضاء في إحدى عينيه ولم يعرف حينها أنه “يرد أشهر سلطان وفاتحٍ في تاريخ المسلمين”!.
انتقل بعدها لخدمة السلطان الصالح “نجم الدين أيوب” فأعتقه وجعله من جملة مماليكه وولاه رئاسة إحدى فرق حرسه الخاصة ثم رقاه قائداً لفرقة المماليك لما رأى فيه من شجاعة وحكمة.
أهم صفات الظاهر بيبرس
عُرف “الظاهر بيبرس” بسرعة البديهة والفطنة، وكان حسن الوجه، أسمر البشرة، أزرق العينين وفي إحدى عينيه بقعة بيضاء صغيرة، طويل القامة، ذو صوت جهوري، ويُقال أنه كان يشبه الأسد في غضبه، كان شجاعاً ومقداماً لا يخاف الموت، يهب في المعارك بهمة عالية، متيقظ دائماً للأعداء.
ما قبل وصول الظاهر بيبرس إلى الحكم
كانت تعاني السلطة في ذاك الحين من توتر شديد وعدد من الصراعات السياسية كانت تهدف للوصول إلى السلطة حيث بدأها الملك “عز الدين أيبك” الذي تخلص من منافسه وغريمه السلطان “فارس الدين أقطاي” رئيس المماليك البحرية مما دفع “الظاهر بيبرس” ومن معه للفرار إلى بلاد الشام للبقاء في مأمن بعيداً عن الصراعات وظل متنقلاً بين دمشق والكرك حتى تولي سيف الدين قطز الحكم سنة 658 ميلادية الحكم.
بعث إليه يطلب الأمان والعودة إلى مصر، فأجاب الظاهر بيبرس وعاد وتم استقباله أحسن استقبال وأنزله دار الوزارة، ومن أهم الإنجازات العسكرية التي سُطرت في تاريخ الظاهر بيبرس معركة “المنصورة” ضد الصليبيين بقيادة لويس التاسع عشر بالإضافة لمعركة “عين جالوت” الشهيرة بالتعاون مع الأمير “سيف الدين قطز”، فكان يقتل رسل المغول التي كان يرسلها “هولاكو” بالتهديد والوعيد وكانت هذه المعركة في 20 رمضان عام 1260 وكان على رأس الجيش واستطاع تحقيق النصر ضد المغول.
بعد أن “ثبت الظاهر بيبرس قدميه في مصر وكسب ثقة السلطة عامة وثقة السلطان قطز خاصةً بدأ يتطلع نحو السلطة وكرسي القيادة وبدأت نفسه تتطلع للثأر، فامتلأ فؤاده بالحقد على صديقه القديم سيف الدين قطز وتأجج الكره في قلبه خاصة بعد رفض السلطان إعطاءهُ ولاية حلب، بالإضافة لتهميش دوره وانتقاص قدره بعد معركة عين جالوت الشهيرة
وجد الظاهر بيبرس من يسانده ويؤيده بكرهه للسلطان فدبر له مكيدةً ومؤامرة وهو في طريقه إلى القاهرة.
جلس الظاهر بيبرس على الكرسي قبل أن يجف دم السلطان!
الظاهر بيبرس يصل إلى العرش
بعد مقتل قطر أجمع الأمراء المماليك على اختيار الظاهر بيبرس سلطاناً، فدخل القاهرة شامخاً منتصراً فاستولى على مملكة مصر وبعدها الشام واحتل العرش حاكما لمصر.
دخل مصر وتبوأ مكاناً في إيواء القلعة عام 1260 ميلادية فكان ذلك بداية عصرٍ جديدٍ من الازدهار والتطور.
أهم الإنجازات التي حدثت في عهد الظاهر بيبرس
بعد أن “أصبح الظاهر بيبرس السلطان المملوكي الرابع في مصر والشام سعى جاهداً لتدعيم قواه على كافة الأصعدة وعلى كافة المستويات”.
بدأ الظاهر بيبرس بتدشين القلاع والحصون وترميم ما دمره المغول في سوريا فخطا خطوات صلاح الدين الأيوبي في حروبه ضد الصليبين، ثم انتقل إلى الشأن الداخلي حيث بدأ بالتقرب من العامة فقرب إليه رجال الدولة وكبار الأمراء ومنحهم الألقاب ومنحهم صلاحيات واسعة، ووجه أنظاره نحو ترتيب الشؤون في الدولة القانونية والإقتصادية ومنها إنشاء البريد بين دمشق والقاهرة وفي المحاكم الشرعية والقضائية عين قضاة عن كافة المذاهب الشرعية الإسلامية.
قام بإلغاء الضرائب التي كانت مفروضة على أهل مصر أثناء حربهم مع المغول مما قرب إليه الناس و زادهم محبة به وانحيازهم لـ صفه.
قام بإحياء الخلافة العباسية في مصر التي زالت على يد المغول وعين خليفة جديد وهو المستنصر بالله، وأمر جميع الأمراء بمبايعته والدعاء له وصك العملة بإسمه.
أما بالنسبة للعمران فقد أنشأ مسجداً كبيراً في القاهرة وسمي مسجد “الظاهر بيبرس” وما زال إلى يومنا هذا، أما في مجال الزراعة فقد أنشأ الجسور فوق نهر النيل وأمر بحفر القناطر، أما في الديار المقدسة فقد أقام إصلاحات كثيرة في الحرم النبوي داخل المدينة المنورة، وفي فلسطين فقد جدد بناء مسجد إبراهيم عليه السلام وبيت المقدس وقبة الصخرة.
أمر بتجديد الجامع الأزهر في مصر الذي بناه الفاطميون بمصر فقد رممه أعاد فتحه لتقام به خطبة الجمعة بعد مئة عام من إغلاقه من قبل الأيوبيين، وأنشئ المباني والقناطر والجسور.
لم ينسى الظاهر بيبرس الإهتمام بالسلك التعليمي قام بإنشاء المدارس، وأمر ببناء منشآت خاصة بالتدريس ومن أهمها المدرسة الظاهرية وتعد من أجمل الآثار المملوكية.
حملات الظاهر بيبرس على الصليبيين
تابع الظاهر بيبرس الحملات الصليبية التي بدأها قطز بعد توليه الحكم لتطهير البلاد العربية من الفرنجة خلال 17 عاماً من فترة حكمه، وخاصة بعد أن فرض الاستقرار الداخلي على جميع أراضيه.
نجح الظاهر بيبرس بزعزعة بنيان كيانات الصليبيين بعد إحدى وعشرين حملة عسكرية عليهم، ففي عام بدأها عام 1263 بمدينة الناصرة وبعدها عكا، لكنها صعبت عليه ثم انتقل وأكمل فتوحاته في يافا وبعدها توالت انتصاراته، كان أهمها سقوط إمارة أنطاكية على البحر في يده والاستيلاء عليها.
وفي عام 1270 حاول الصليبيون بقيادة “لويس التاسع” شن حملة رداً على ما قام بيبرس، بدؤوا حملتهم من تونس وأصاب الجيش الأمراض والأوبئة ومات لويس هناك وعادت الحملة، وبعدها بعام توجه بيبرس إلى حصن الأكراد في حمص و استولى وهو الحصن الذي لم يستطع صلاح الدين السيطرة عليه.
وفاة الظاهر بيبرس
توفي الظاهر بيبرس عام 1277 بعد أن عاد منتصراً من حملته على سلاجقة الروم في قصره الأبلق بدمشق بعمر أقل من 55 سنة، ودفن في المدرسة الظاهرية و أقيم له ضريح فيها.
مات الظاهر بيبرس بعد سبعة عشر عاماً من العمل والبناء أرسى خلالها دعائم دولته، كسب فيها محبة الصغير قبل الكبير جعلته يتبوأ مكانة كبيرة في قلوب الشعب، حتى نسج سيرة عظيمة حملت بطولة وشجاعة، وما زال تاريخ الإسلام يشهد له الفتوحات والمعارك التي خاضها كبطل فاتح باسم الإسلام والمسلمين يُفتخر به أينما ذكر اسمه وحلت سيرته.
تعليقات
إرسال تعليق