القائمة الرئيسية

الصفحات

ماهو الفرق بين الحب والجنس؟

 


في الحب بين المرأة والرجل تكمن خصوبة الوجود الإنساني و تتجذر أصالته. والحب بالتعريف عاطفة مشبوبة تتجلى في حالة من التجاذب الوجداني العميق الذي تتعانق فيه مشاعر المرأة بمشاعر الرجل وترتسم في صيغة تكامل وجداني وجودي خلاق.
والحب عند فروم (Fromm)، سلوك يتضمن الميل إلى شخص آخر والتماهي به”. ويعرفه في مساق أخر بأنه “قهر الانفصال الإنساني والاشتياق إلى الوحدة والاتحاد” وإذا كان الحب اتحاد وتماهي بين الرجل والمرأة، فهو على حد تعبير فروم “نفاذ إلى عمق المحبوب بحثا عن الهوية والانتماء الوجداني الأعمق في الإنسان.
يقول فروم،” في فعل النفاذ إلى الشخص الأخر أجد نفسي اكتشف الإنسان. فالحب كما يصوره فروم هنا هو اكتشاف الذات، إنه حالة انتماء يتجاوز الإنسان فيه اغترابه وتجزؤه، إنه رؤية شمولية انقلابية تجاه الكون والعالم.
ولكنه مع ذلك ليس قوة عليا تهبط على الإنسان، بل قوة حيّة تولد في إطار تجربة الإنسان وتسعى إلى تحقيق اتصاله مع العالم الخارجي، بل هو موقف إزاء العالم والكون يتيح للإنسان أن يخرج من حالته الجزئية إلى حالته الكلية ليعانق العالم كله ويتحد معه في صورة مثالية متكاملة .

يأخذ الحب في صورته الواقعية هيئة اتحاد جسدي ونفسي بين كائنين إنسانيين وهو كما ترى “سيمون دوبوفوار” طاقة تجمع بين العناصر المختلفة للعلاقة بين الرجل والمرأة وتهبها معناها ودلالتها، ففي الحب يرتد العاشق إلى ذاته وكينونته الواحدة ليخاطب ذاته عن طريق الأخر ومن خلاله، والمعشوق في هذه الحالة هو الصورة المثالية التي يعكسها العاشق عن ذاته ليرى فيها ذاته بـ اكتمالها.

الحب الصوفي
يقدم الأدب الإغريقي صورة عن الحب ويرسمه في لوحة فنية يفيض جمالها، وأدبيات أفلاطون في الحب ما زالت تشع ضياء عبر المراحل التاريخية المتدافعة، ويتجلى تناوله لمفهوم الحب في محاورات: في المأدبة، ودرس Phedra، وهي محاوراته في الجمال والشباب، وقد شكلت مقولات أفلاطون في الديالكتيك الصاعد، ينبوع المفهوم الفرويدي في الحب الإنساني و التسامي Sublimatio، فالإنسان في جدله الصاعد ينتقل من حب موضوعات الجمال إلى حب الجمال ذاته وإلى حب الحقائق الكونية وذلك بتأثير حركة خلاقة تبرهن على وحدة الحب وحيويت
وقد استعار أهل التصوف (فلسفة التصوف) أيضا من الحب العذري موضوعه ودوافعه ونماذجه، فضلا عن صورة الشعرية، ووظفوها في التقديس الروحي المتعالي بوصفه جوهر الصلة بين الناس والله. من هنا تعلن “مارغريت دي نافار”، أن الله يسمو بالحب و يتوسم في خلقه الارتقاء إلى الحب لمطلق له للكون الذي يتربع على عرشه .
وعلى هذه الصورة بنى المتصوفون مجد الحب القدسي وأسسوا له، وفي هذا الحب الصوفي ينتسب قول الحلاج:
أنا مَن أهوى ومَن أهوى … أنا نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتَني أبصرتَه … وإذا أبصرتَه أبصرتَنا
ثم قوله الرائع في هذا التماهي الروحي بين المحبين:
مُزِجَتْ روحُك في روحي كما… تُمزَجُ الخمرةُ بالماءِ الزُّلال
فإذا مسَّكَ شيءٌ مسَّني … فإذا أنتَ أنا في كلِّ حال
ومن المناسب في هذا السياق هنا أن نعرض أجمل صورة شعرية ممثلة للحب الصوفي القدسي الذي تجلى في أدب الفيلسوف العربي الكبير محي الدين ابن عربي إذ يقول:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي … إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة … فمرعى لغزلان وديرٌ لرهبان
أدين بدين الحبِّ أنّى توجهت… ركائبه فالحبُّ ديني وإيماني
الحب حاجة إنسانية أصيلة
تقول الحكمة القديمة، “بالحب يحيا الإنسان”، والإنسان يمكنه الاستغناء عن الضوء والأكسجين ولكنه لا يمكنه أبدا الاستغناء عن الحب”.

فالحاجة إلى الحب أصيلة تضرب جذورها في لاشعور المرء ووجدانه، وهو بذلك يأخذ صيغة نشاط نفسي أصيل في أعماق النفس الإنسانية.
وهنا وتبرز الحاجة إلى الحب المتبادل بين الجنسين كحاجة داخلية أصيلة، وفي هذا الصدد يقول ماركس في ” العائلة المقدسة ” إن العلاقة الأكثر مباشرة وطبيعية وضرورية وإنساني بين كائن إنساني وآخر هي العلاقة بين الرجل والمرأة”.
وإذا كان الحب حاجة دفينة أصيلة في نفس الإنسان “فإنه لا يمكن للإنسان أن يعيش من غير الحب أو أن يتوقف عنه” على حد تعبير نيتشه، إذا “لا يوجد شيء من غير الحب إذا كنت أريد الحياة فإنني أريد أن أعيش مع المحبوب”.
ويمكن أن نستشرف أبعاد هذه الحاجة إلى الحب في شعر جميل وضاح حيث يقول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود في الحب:
شَقَقْتُ القلبَ ثم ذررتُ فيه
تغلغلَ حبُّ عَثمَةَ في فؤادي
تغلغلَ حيث لم يبلغ شرابٌ
هواك فليمَ والتأم الفُطورُ
فباديه مع الخافي يسيرُ
ولا حزنٌ، ولم يبلغ سرورُ
الحب الخلاق
الحب عند أفلاطون “عامل خلق وإبداع، بل هو عامل تربية وتهذيب، والتربية ليست شيئا آخر غير الحضور المستمر للحب”، ويستطيع الحب كما يقول كاردان، أن يطور الكائنات الإنسانية وأن يجمع بينها، والإنسان الكامل هو الذي يعيش في دائرة الحب محبا ومحبوبا، يغدق الحب ويرشف من شفتيه.

والإنسان كما يرى هذا الفيلسوف “لن يستطيع أن يصل إلى مستوى نضجه الروحي من غير تأثير مشاعر قادرة على إثارة ذكائه وإذكاء طاقته وهي مشاعر تمتثل مبدئيا في طاقات الحب لديه”.
فالحب يأخذ الإنسان إلى الشعور بالانتماء والوحدة، وهو من أشد تجارب الحياة بعثا للبهجة والإثارة وبالتالي فإن الانفصال يعني السقوط في عبودية الأشياء وفقدان القدرة على الفعل والإثمار فالحب ليس حالة سلبية بل “حالة إيجابية تتفتق بالعطاء وليس بمجرد الأخذ والتلقي وهو،أي الحب، “ينبع من الحاجة إلى تجاوز الانفصال ليثمر صورة الوحدة والتوحد في النفس الإنسانية”.

الحب والجنس
يتداخل مفهوم الحب والجنس وتضيع الحدود الفاصلة بينهما، فالحديث عن أحدهما يقتضي الحديث عن الآخر، وذلك لما بينهما من علاقات جوهرية عميقة.
ومع ذلك فإن الفصل بين المفهومين أمر ممكن إذا أردنا إدراك صيغة العلاقة بينهما، فالجنس حالة عضوية بيولوجية بالدرجة الأولى، أما الحب فيأخذ هيئته النفسية وصيغته الاجتماعية بالدرجة الأولى.
وإذا كان الجنس اتحاد بين جسدين، فإن الحب اتحاد بين نفسين أي بين المشاعر والعواطف الإنسانية النبيلة، ومع ذلك كله فإن الاتحاد الكامل بين شخصيين هو اتحاد النفس والجسد، لأن الروح كما يقول نيتشه “تداعب الجسد في حالة الحب الحقيقية”.

إذا كان فرويد يفسر السلوك الإنساني من خلال مبدأ الجنسية، فإن علم العادات Éthologie أظهر وجود دوافع التعلق العاطفي والحاجة إلى الحب عند بعض العصافير والثدييات، لذلك فإن علماء السلوك الإنساني يؤكدون على أسبقية الحياة العاطفية و أوليتها على الحياة الجنسية ويتبدد ذلك في تصرفات الحيوانات العليا التي تظهر أهمية التعلق العاطفي وتبادل الحب والجنس.
فالجنس حاجة أساسية كالحاجة إلى الطعام والشراب أما الحب فهو عاطفة تعبر في أحد جوانبها عن هذه الحاجة، إذا كان الحب حالة روحية خالصة فإنه لا يمكن أن يكون جوهريا إلا في إطار علاقته الحيوية بالواقع الجنسي عندما يكون هناك حب بين الرجل والمرأة.
إن الفصل بين الحب والجنس غير ممكن كما ترى دي نافار فالحب هو الذي يجمع بين الرجل والمرأة ويهب هذه العلاقة، أي العلاقة الجنسية معناها ودلالتها وفي هذا السياق يقول سانت أوغسطين، ” إن الحب شهواني حتى داخل الروح وروحي حتى في عمق الشهوة”، والجنس عند المرأة أحد أهم موانئ النفس الإنسانية على حد تعبير ميشليه.
يرتبط الحب إذا بالدافع الجنسي، ولكن للحب أهمية وحضوره وخصوصيته التي تجعله أكثر سموا وعظمة وأصالة من الجنسانية، لأن الجنس تعبير عن غريزة بيولوجية بالدرجة الأولى بينما يعبر الحب عن صيغته الإنسانية وعن دلالته الاجتماعية.

فالحب عند الإنسان وفقا لتصورات الفرويدية ظاهرة نفسية اكثر منها عضوية وذلك ينسحب حتى على المراحل الأولوية الأكثر حيوية أي عند التقارب الجسدي كما يقول روستاند Restand في هذا الصدد، ” إن التقارب بين جسدين لا يتم دون حضور سيكولوجي اجتماعي “وهنا تتبدى لنا درجة الصعوبة والتعقيد في الحب الإنساني.
إن الحب بالنسبة للجنس هو كـ التعطش إلى الماء وهو مؤشر وقد يكون مؤشرا على الحرمان الجنسي للفرد أو الإنسان، وهو يعبر عن الحياة الإنسانية للفرد في سياق تكاملها وتوازنها فيأخذها إلى تجاوز الأطر الذاتية الأنانية ويخرجها من حالة التوحد والانكفاء الذاتي إلى مجال التفاعل الإنساني الأرحب مع الآخر، ومع الحياة بما تنضح فيه من حق وخير وجمال .
وبالمقارنة بين الحب والجنس نجد أن الأول “أخذ طابعا إنسانيا بينما يأخذ الثاني طابع شهويا شبقيا”، ولذلك فإن ثورة الدافع الجنسي تهدأ بعد الإشباع بينما يظهر الحب ويملأ حياة الإنسان ويكبر ما أن ينطلق ويتحقق.
لا يتم اكتمال الأنا في شخصية متوازنة منسجمة مع نفسها ومع الآخرين إلا بوجود النضج العاطفي والاجتماعي فالحب يرتبط بالجنس وهذا يرتبط ب “التابو” والمقدس ويؤدي ذلك كله إلى حالة كبت عميق على المستوى العاطفي الجنسي.
إن أكثرية المشكلات الانفعالية تنجم عن إخفاق المراهق في تكوين علاقة حب متوازية مع أفراد الجنس الآخر، فالصداقة مع الجنس الآخر هي الطريق إلى إثبات الذات والشعور بالهوية، لقد بينت أكثرية الدراسات التي أجريت على الشباب أن المشاكل الجنسية والعاطفية تحتل مكان الصدارة والأولوية بين مشكلاتهم .
والمجتمعات الإنسانية تعاني اليوم من أزمة حب وأزمة جنس في آن واحد، وهي أزمة ناتجة عن التقنين المتشدد للجنس، وتجد هذه الأزمة منفذها في النقيضين، الطهرية الصوفية من جهة، ثم الإسراف في الجنس أو الشهوانية من جهة أخرى.

للشباب عاطفة مشبوبة متى تشوهت تمزقت ذواتهم وانقلبت موازين حاضرهم ومستقبلهم لأن عواطفهم ومشاعرهم العاطفية تمثل جانبا مصيريا في حياتهم ووجودهم ولا يمكن للحب أن ينشأ في فراغ اجتماعي، فهو وليد ذلك التفاعل الاجتماعي الذي يحقق التواصل بين الأنوثة والذكورة ممثلتين في أشخاص أفراد المجتمع. فالحياة الاجتماعية هي الجسور الحقيقية لذلك التواصل.
وتبين الدراسات الجارية العصر بين الجنسين في مراحل الطفولة والشباب تترك آثارها السلبية في مواقف الجنسين أحدهما من الآخر على نحو دائم، فالحب عاطفة إنسانية نبيلة. إن الجميع يقدسون الحب ويرمونه بالحجارة في آن واحد.
إننا نريد الحب أن يعمق إنسانيتنا وأن يوثق ارتباطنا بالحياة ومن هنا فإن علاقات المرأة الإيجابية المتوازنة مع الرجل تشكل المناخ الإيجابي في تغيير نظرة الفتاة إلى نفسها واكتسابها ثقة أعلى بقدراتها واستعداداتها في مجالات الحياة المختلفة.


تعليقات